ولعل أخطاء الماضي، خاصة ما حدث في السبعينات من القرن الماضي، لا يرغب الفيدرالي في تكرارها على الإطلاق، حينما قرر رئيس الفيدرالي السابق آرثر بيرنز، خفض أسعار الفائدة في أوائل 1970 من 9 بالمئة إلى 4.5 بالمئة بحلول نهاية العام، وقد تبين أن ذلك التصرف كان أحد أخطاء السياسة الاقتصادية الكبرى التي أفضت إلى عودة التضخم مما تطلب إجراءات أكثر صارمة لاحقًا من خليفته بول فولكر لكبح جماح التضخم.
ويخشى بعض خبراء الاقتصاد أن يكرر الاحتياطي الفيدرالي الخطأ الذي ارتكبه “بيرنز” بخفض أسعار الفائدة في غير أوانه قبل استعادة الثقة الكاملة في التزامه بمستهدفات التضخم.
بحسب وكالة بلومبرغ هناك طريقتان يمكن أن يتكرر بهما هذا السيناريو القديم في 2024، ولو بشكل مصغر:
- الأول ينطوي على صدمة العرض (أزمة سلاسل الإمداد) ــ وهو احتمال وارد بقوة خاصة إذا ما أدى الصراع المتصاعد في الشرق الأوسط إلى ضرب أسعار النفط وممرات الشحن.
- أما السبب الآخر فسوف ينبع من ظروف نقدية تيسيريه ــ مع انخفاض العوائد على سندات الخزانة لأجل خمس سنوات بما يزيد عن نقطة مئوية عن أعلى مستوى بلغه في أكتوبر، والذي من الممكن أن يرفع التضخم بنصف النقطة المئوية، مقربًا إياه من 3 بالمئة، الأمر الذي قد يجبر الفيدرالي على تأجيل تخفيض الفائدة.
شبح التضخم يطل برأسه من جديد
بعد أن اقترب التضخم في الولايات المتحدة من هدف البنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة، عندما تباطأ خلال شهر نوفمبر الماضي إلى 3.1 بالمئة على أساس سنوي، تسارع بأكثر من التوقعات خلال ديسمبر الماضي، إذ عاد للارتفاع إلى 3.4 بالمئة فيما كانت التوقعات أن يسجل 3.2 بالمئة، بحسب بيانات أميركية رسمية أوضحت أن معدل التضخم ارتفع على أساس شهري في ديسمبر بنسبة 0.3 بالمئة، بعد أن ارتفع 0.1 بالمئة في نوفمبر.
وأبقى الاحتياطي الفيدرالي في 13 ديسمبر الماضي الفائدة دون تغيير للمرة الثالثة على التوالي، وللمرة الرابعة منذ بدء دورة التشديد النقدي في مارس 2022، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، وهي الأعلى منذ 22 عاماً، حيث توقف عن رفع الفائدة للمرة الأولى في سبتمبر الماضي وذلك بعد زيادتها 11 مرة لخفض التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوى منذ 40 عاماً في يونيو 2022 عند مستوى 9.1 بالمئة.
ويشهد العالم توترات جيوسياسية تعد الأكثر تعقيداً منذ عقود، في ظل الحروب في قطاع غزة وأوكرانيا إلى التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان، والهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر والتي أدت إلى ارتفاع تكاليف شحن البضائع إلى جانب طول مدة الشحن، والضربات الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد أهداف لجماعة الحوثي في اليمن.
الأسواق تفرط في التفاؤل
رئيس قسم أبحاث الأسواق المالية في مجموعة “Equiti” رائد الخضر يقول في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “منذ نهاية الربع الأخير من عام 2023، تسيطر حالة من التفاؤل على الأسواق العالمية حيال وصول الفيدرالي الأميركي إلى ذروة التشديد النقدي والتوجه نحو سياسة خفض الفائدة هذا العام، ولكن الأسواق تفرط في التفاؤل بشأن هذا التوجه قبل نهاية الربع الأول من العام خاصة أن البيانات الاقتصادية الأخيرة وبخلاف بيانات التوظيف الإيجابية، تؤكد عودة معدل التضخم لتتسارع من جديد وترتفع إلى 3.4 بالمئة على أساس سنوي، فيما يستهدف البنك مستويات تضخم عند 2 بالمئة فقط”.
ويرى الخضر أن ارتفاعات التضخم الحالية قد تكون مؤقتة، إلا أنه يجب وضع التوترات الجيوسياسية بعين الاعتبار، إذ قد تتسبب في عودة ارتفاع التضخم ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن على الصعيد العالمي، بل أن الأسواق العالمية بدأت تترقب الآن موجه جديدة من ارتفاعات التضخم.
تفاقم المخاطر الجيوسياسية
فالصراع الأخير في الشرق الأوسط والذي جاء مباشرة بعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا أدى إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية، ففي أحد تقاريره يحذر البنك الدولي حذر من أن تصعيد التوترات في الشرق الأوسط قد يتسبب في ارتفاع أسعار النفط والتضخم عالمياً، ويأتي هذا قبل الضربات الجوية الأميركية البريطانية ضد الحوثيين في اليمن الأسبوع الماضي، وبالتالي فتصاعد تلك الأحداث سريعاً قد يكون له تداعيات سلبية على التضخم العالمي، طبقاً لما قاله الخضر.
كما أن الأزمة المستمرة في البحر الأحمر، تسببت في ارتفاع تكاليف شحن البضائع بأكثر من 180 بالمئة، بخلاف نقص المعروض ومخاوف كسر سلاسل التوريد مجدداً مثلما حدث في العام 2020، بحسب رئيس قسم أبحاث الأسواق المالية في مجموعة “Equiti”، الذي أوضح أن التجارة العالمية بدأت تتأثر سلباً منذ بداية العام بالهجمات في البحر الأحمر ما أدى إلى تعطيل الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط أوروبا والولايات المتحدة بآسيا عبر قناة السويس ودفع كبرى شركات الشحن لتغيير مسار الشحنات لتدور حول رأس الرجاء الصالح، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الشحن لمستويات غير مسبوقة ونقص المعروض من السلع مع استغراق مدة أطول في الشحن.
ويضيف الخضر: “على الرغم من كل ذلك فإنه من السابق لأوانه تقييم التداعيات الناجمة عن هذه التوترات الجيوسياسية على الأوضاع المالية، ولكن القلق الرئيسي الآن أصبح يكمن في التداعيات الناجمة عنها على معدلات التضخم الفترة المقبلة، إذ بدأ التضخم بالفعل في الارتفاع مجدداً وخاصة في الولايات المتحدة خلال ديسمبر الماضي، وفي حالة استمرار تلك المخاوف، فقد يبدأ الفيدرالي الأميركي تغيير نظرته حيال ضرورة خفض الفائدة في اجتماع مارس المقبل، بل أن هناك بعض التوقعات تذهب إلى تأجيل الفيدرالي اللجوء للسياسة النقدية التوسعية حتى الربع الثالث من هذا العام”.
لكن يجب أن نضع بعين الاعتبار، أن الفيدرالي الأميركي يعتمد بشكل رئيسي على التأكد من البيانات الاقتصادية قبل اتخاذ أي قرار، ذلك أن البنك لا يبني قراراته في السياسة النقدية على عوامل مؤقتة، وبالتالي قد يفضل مراقبة التوترات الجيوسياسية والبيانات الاقتصادية والتأكد من قوة وتماسك الاقتصاد الأمريكي قبل أن يتخذ أي قرارات جديدة، وفقاً رئيس قسم أبحاث الأسواق المالية في مجموعة “Equiti”.
اتجاه الفائدة يحتاج يقين أكبر
وفي تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الدكتور نضال الشعار، كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا: “الموقف العالمي اليوم تغير تجاه أسعار الفائدة وأصبح الحديث يدور حول النمو الاقتصادي ودرجات هذا النمو سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو دول الاتحاد الأوروبي أو غيرها من الدول، نتيجة السيطرة نوعاً ما على معدلات التضخم والتي انخفضت بشكل ملحوظ وبالتالي لم يعد هناك مبرر لرفع أسعار الفائدة.
ويوضح الدكتور الشعار إلى أن الفيدرالي الأميركي يحتاج على يقين أكبر فيما يخص توجهاته نحو أسعار الفائدة تثبيتاً أو انخفاضاً، وخصوصاً مع البداية غير المبشرة لهذا العام والذي شهد أسبوعه الأول انخفاض معظم المؤشرات، متوقعاً أن يكون العام الحالي بذات الوتيرة من الحيرة وعدم القين والضبابية والتي شهدها العامل في العام 2023.
ولكن في المقابل يشير كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا إلى أن وضع التضخم حالياً مطمئن، بل ويتوقع انخفاض معدلاته نتيجة بدء انخفاض الطلب الكلي في اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويستطرد الدكتور الشعار: “أما في حال تصاعد التوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الطاقة والغذائيات فسنعود إلى دوامة التضخم لكن هذا التضخم سيصاحبه نوعاً من الركود الاقتصادي أي الدخول في الركود التضخمي، وفي هذه الحالة تكون أدوات السياسة النقدية محدودة إذ لابد من تزاوج السياسة المالية النقدية مع السياسة الإنفاقية”.