وواجه الاقتصاد الروسي أكبر حزمة عقوبات في التاريخ، كما فرضت عليه قيود لم يسبق أن شهد العالم مثلها، ومع ذلك تمكن من الصمود حتى اللحظة.
وبحسب صحيفة “الإيكونوميست”، فإن الانهيار المالي الذي كان يراهن عليه الغرب لا يحدث، بينما يتجه الاقتصاد الروسي للنمو هذا العام بنسبة تصل إلى 2.6 بالمئة، بعدما نما بنحو 3 بالمئة العام الماضي، مستفيداً من الإنفاق العسكري الضخم والجهود التي اتخذت لتحفيز قطاع الإنشاءات في البلاد.
كما لا يبدو أن الشركات تواجه أي صعوبات في الاستمرار؛ بدليل تراجع معدل إغلاق الأعمال التجارية إلى أدنى مستوى له في 8 سنوات، بعد أن تمكنت الشركات من إنشاء سلاسل توريد جديدة، بحيث بات أكثر من نصف واردات السلع في روسيا تأتي من الصين.
وحتى التضخم الذي لا يزال يتجاوز 7 بالمئة على أساس سنوي وفق أرقام يناير، لا يبدو أنه يثير القلق في ظل التوقعات التي ترجح بدء تلاشي الضغوط التضخمية بعد أن أصبحت موسكو أكثر استقلالية واكتفاءً ذاتياً في إنتاج الغذاء على وجه التحديد.
في يناير 2024، استقر التضخم عند 7.4 بالمئة على أساس سنوي، كما كان الحال في ديسمبر 2023، بعد سبعة أشهر من الزيادة المستمرة، وفق أرقام روستات. وتهدف السلطات إلى احتواء التضخم السنوي عند مستوى 4 بالمئة.
ومع ذلك لا يزال طريق الاقتصاد الروسي محفوفاً بالتحديات، وأهمها عودة التضخم للارتفاع من جديد في حال هبوط الروبل الروسي، فضلاً عن احتمالية تراجع أسعار النفط التي تشكل مصدر دخل رئيسي في البلاد.
من شأن ذلك الصمود الاقتصادي دعم موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الانتخابات التي يتنافس فيها أربعة مرشحين سجلتهم لجنة الانتخابات المركزية، وبدأت الجمعة وتستمر حتى 17 مارس الجاري (وهي أول انتخابات رئاسية تستمر ثلاثة أيام في تاريخ البلاد).
ووفق أحدث استطلاعات الرأي، يتجه الرئيس بوتين للحصول على أكثر من 80 بالمئة من الأصوات، وسط توقعات بأن تبلغ نسبة التصويت أكثر من 70 بالمئة.
وتيرة نمو جيدة
وفي هذا السياق، قال وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف، في مقابلة مع “سكاي نيوز عربية” إن:
- نسبة النمو في الاقتصاد الروسي سجلت وتيرة “جيدة جدا” خلال العام الماضي، لتصل إلى 3.6 بالمئة، وهو معدل رائع بالنسبة لمتوسط نمو الاقتصاد العالمي، “وهي أعلى بمرتين من نسبة النمو في الدول المتطورة”، بحسب تعبيره.
- النمو حدث بفضل الأسواق الداخلية، بجانب النمو المتسارع في قطاع الصناعات التحويلية والتي بلغت نسبته 7.1 بالمئة في العام الماضي.
وعلى الرغم من قوله إن روسيا لا تمتلك التقديرات النهائية عن نسبة زيادة الاستثمارات خلال العام 2023، فإنه أكد أن “الأرقام الحقيقية” سجلت حتى الآن نحو 10 بالمئة، “وسيشكل ذلك نموا رائعا للاستثمارات.
أسرار صمود الاقتصاد الروسي
من موسكو، يقول الكاتب الصحافي أندريه أنتيكوف، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن ثمة عديداً من العوامل الرئيسية وراء صمود الاقتصاد الروسي ضد العقوبات الأوروبية؛ على رأسها استعداد موسكو المسبق لمثل هذا السيناريو.
العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا تجاوزت 19200 عقوبة، في مقدمتها عقوبات أميركية وكندية وسويسرية ودول الاتحاد الأوروبي . كما وصلت حزم العقوبات المفروضة على روسيا 12حزمة عقوبات، تغطّي نحو 1800 فرد وكيان.
ورغم ذلك تمكن اقتصاد موسكو من إبداء مرونة واسعة، وصنف البنك الدولي الاقتصاد الروسي في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث القوة الشرائية. ويتوقع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 1.1 بالمئة، في عام 2024.
وأشار الكاتب الروسي إلى أن:
- العقوبات التي تعرضت لها روسيا بعد الحرب في أوكرانيا ليست الأولى، وكانت قد فرضت عليها كثير من العقوبات في عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم للأراضي الروسية، بما في ذلك عقوبات على بعض البنوك الروسية وطرد تلك البنوك من نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك).
- هذه الخطوة دفعت السلطات الروسية -وتحديدا البنك المركزي الروسي- للتفكير حول ضرورة بناء نظام مشابه لسويفت في داخل روسيا ليكون خاص بها فقط، وهو ما حدث قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
- النظام البنكي لم يتفكك عقب تطبيق العقوبات على روسيا.
- النظام المالي في روسيا كان قائماً ومتماسكاً وهو ما سمح باستمرار الأعمال للمصانع والشركات وحتى المواطنين.
نجحت روسيا على مدار السنوات الماضية -منذ 2014 بشكل خاص- في تعزيز الجبهة الداخلية من خلال مجموعة من الإجراءات الاستباقية، وهي الإجراءات التي خففت من وطأة وتأثير العقوبات بعد ذلك عليها بعد الحرب في أوكرانيا. جنباً إلى جنب والسياسات المالية والنقدية التي اتبعتها منذ بداية الحرب لمعالجة تداعياتها.
ولعدة أشهر، جعل البنك المركزي الروسي مكافحة التضخم محور اهتمامه الرئيسي. وفي منتصف ديسمبر، رفع البنك سعر الفائدة الرئيسي إلى 16 بالمئة، وهي الزيادة الخامسة على التوالي منذ تموز/يوليو 2023.
وأشار الكاتب الروسي في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أنه بعد خروج كل من فيزا وماستر كارد من روسيا، بذل البنك المركزي الروسي قبل العملية العسكرية الجهود لإقامة البطاقات الوطنية في روسيا، وهو ما سمح من جديد للمواطنين أن يستعملوا البطاقات البنكية.
وقال إن:
- روسيا تمكنت من تنويع العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى بعدما تم فرض عقوبات عليها في 2014.
- بذلت موسكو الكثير من الجهود لاقامة الاتصالات الاقتصادية والتجارية مع الدول الشرقية والجنوبية بما في ذلك الدول العربية والإفريقية، وهذا ما جعلها تتجاوز المشاكل المتعلقة بالعقوبات وتمكنها من إيجاد مستهلكين جدد للبضائع الروسية ولذلك صمد النظام الاقتصادي.
تنويع العلاقات
وكان وزير التنمية الاقتصادية الروسي، قد قال في مقابلته مع “سكاي نيوز عربية”: “على مدى عقدين أقمنا تعاونا وثيقا مع أقوى الاقتصادات ومددنا بعضنا بالبضائع، وجعلنا بعضنا بعضا أقوى لكن، وللأسف، ونظرا للضغوط من دول معروفة، تضررت هذه العلاقة.. بدأنا إعادة توجيه البضائع إلى أسواق مختلفة، وبذكر الأسواق الجديدة، يجدر بنا أن نذكر الصين. حجم التبادلات التجارية مع الصين ازداد كثيرا، ليس فقط مع الصين لكن مع 20 دولة أخرى أيضا”.
كما أشار إلى أن حجم التبادلات التجارية مع الدول الأخرى سجل أرقاما قياسية مع الهند وتركيا وإيران ودول في أميركا اللاتينية بما فيها البرازيل، ودول جنوب شرق آسيا “وبالطبع أيضا الدول العربية”.
وبالعودة لحديث أنتيكوف لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإنه أشار إلى أن الاقتصاد الروسي يتعرض لضغوطات ليس فقط بسبب العقوبات، لكن أيضا بسبب العملية العسكرية، لكن يتم التعامل مع ذلك أيضًا من خلال عسكرة الاقتصاد الروسي، فعلى سبيل المثال تم افتتاح مصانع جديدة لصناعة الأسلحة وهو ما يسهم في تطوير الاقتصاد الروسي.
ويشار في هذا السياق إلى الإنفاق الحكومي الواسع على الدعم الاجتماعي للأسر ولذوي المجندين في الجيش، وكذلك ارتفاع رواتب أصحاب الدخل الأدنى بأسرع وتيرة من الشرائح الأخرى في الأرباع الثلاثة الماضية، ضمن الجهود الروسية الداخلية لاحتواء تبعات الحرب، وهي الجهود التي أشرف عليها الرئيس بوتبني بنفسه، والذي حرص على حضور الاجتماعات الاقتصادية، وقدم تعهدات قبل الانتخابات في هذا السياق تبلغ عشرات المليارات على مدى ست سنوات مقبلة لتحسين الوضع الاقتصادي.
من جانبه، أرجع المحلل الروسي، ديمتري بريجع، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، صمود الاقتصاد الروسي في وجه العقوبات الأوروبية إلى السياسات التي اتبعتها الحكومة والتي ساعدتها في تخطي تلك العقوبات.
وأضاف: “إن اعتماد روسيا على الدول الصديقة ساعدها أيضًا في تخطي العقوبات”، مشيرًا إلى أن دول بآسيا الوسطى وأخرى أوروبية وعربية قررت أن لا تكون جزءاً من العقوبات الغربية، ومنها تركيا والإمارات والصين.
ونوه إلى أن الاقتصاد الروسي كان قد تماسك في العام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ذلك بعد اتباع موسكو سياسة الاعتماد على الذات وإعادة فتح المصانع التي تم غلقها في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وافتتاح مصانع للإنتاج العسكري الذاتي والقطع العسكر والشرائح الإلكترونية، وهو ما تعتمده الآن.
قوة الاقتصاد
وفي منتصف يناير من هذا العام، اجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الحكومة، وأشار الأخير إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.5 بالمئة، قبل أن يبين بوتين مع حسابات أكثر دقة، ازدياد معدل النمو عن هذه النسبة، بناء على نتائج العام السابق، وفقًا لما ذكرته وكالة أنباء (تاس) الروسية.
وممّا قاله الرئيس الروسي، إن الاقتصاد الروسي يمتلك احتياطيا كبيرا يمكنه من النمو. وارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.5 بالمئة، ونمت الصناعة بنسبة 6 بالمئة، والاستثمار 10 بالمئة؛ ما يعني قدرة موسكو على مواجهة العقوبات، بينما انخفض دين الدولة الخارجي من 46 مليار دولار إلى 32 مليارا.
كما حقّقت التجارة السلعية خلال العام الجاري فائضا بلغ 308 مليارات دولار حسب الإحصاء الروسي، أو 292 مليار دولار حسب منظّمة التجارة العالمية، لتحتل روسيا بذلك الفائض الكبير المركز الثاني بعد الصين.
ضغوطات غير مسبوقة
وبحسب وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف ، في تصريحاته لـ “سكاي نيوز عربية”، فإن:
- روسيا شهدت عقوبات وضغوطات غير مسبوقة، إلا أن موسكو تمكنت من التكيف مع الصدمات الخارجية
- “نتدبر أمورنا جيدا، الأمر لا يتعلق فقط بالإدارة الرشيدة بل لدينا مهام علينا تطويرها للحفاظ على نسبة النمو المطلوبة”
- “ليس بإمكاننا القول إن أحدا سيستفيد من العقوبات لا الشركات الروسية ولا الاقتصاد الروسي ولا الاقتصاد العالمي بإمكانه الاستفادة من هذه العقوبات”، بحسب تعبيره.
- “أولا، من عانى؟ أوروبا والاتحاد الأوروبي. انخفضت حصة الأسواق الأوروبية مرتين وهذه مشكلة ثنائية لأوروبا، والوضع تغير بشكل جذري مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا”.
دولة كبرى
من جانبه، أكد الأستاذ في مدرسة موسكو العليا للاقتصاد رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن روسيا دولة كبرى، بحيث لا يمكن محوها أو شطبها من خريطة الاقتصاد العالمي (بالإشارة إلى محاولة الغرب من خلال العقوبات إجبار روسيا على التراجع وهزيمتها اقتصادياً).
وأفاد بأن:
- الغرب اتبع نفس النهج الذي اتبعه في تعامله مع دول مثل فنزويلا وإيران (العقوبات).. لكن روسيا بلد كبير، ومن أكبر منتجي النفط، وبالتالي لم تؤثر العقوبات على اقتصادها بالشكل الذي سعى إليه الغرب.
- العقوبات الغربية المفروضة على روسيا تعد عقوبات أحادية الجانب (ليست صادرة عن مجلس الأمن)، لذا فإن تلك العقوبات غير مُلزمة للدول الأخرى، وهو ما ساعد روسيا أن تطور علاقاتها مع دول أخرى، من بينها الصين والهند والدول العربية والإفريقية وأميركا اللاتينية.
- مبيعات الغاز والنفط الروسي إلى الصين والهند تضاعفت بشكل كبير جداً، ووصل ناتج التجارة السنوية بين روسيا والصين في 2023 إلى ما يقرب من 200 مليار دولار، وهذا تقريبا ضعف معدل قبل الحرب؛ إذ كان حجم التجارة بينهما يصل إلى 120 أو 130 مليار دولار.
تعهدات بوتين
وعلى الصعيد الداخلي، أكد القليوبي أن الرئيس بوتين يستطيع الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه في المجال الاجتماعي، مشيرًا إلى أنه قبل الانتخابات كانت هناك إشارات أو تأكيدات شبه رسمية بأنه سيتم فرض ضريبة تصاعدية على أصحاب الدخول فوق المتوسطة، كذلك رفع ضرائب الأرباح للشركات.
وخلال الأرباع الثلاثة الماضية، ارتفعت رواتب أصحاب الدخول الأدنى في روسيا، لتسجل نموًا قيمته 20 بالمئة، وفقًا لبيانات دائرة الإحصاء الروسية.
لكنه أضاف: “كل المؤشرات تؤكد أن سعر صرف الروبل سيتراجع كثيراً بعد الانتخابات، فالآن تراجع لأكثر من 92 روبل للدولار الواحد مع انطلاق اليوم الأول للتصويت”، لافتًا إلى أن ذلك مقارنة بالانتخابات السابقة كان الروبل يحسن أدائه قبيل الانتخابات.
وأوضح أن هذا التراجع أو التعويم المرتقب للروبل يعني أن العوائد النفطية ستزداد قيمتها بما تعادله بالعملة المحلية، بالتالي تتوافر السيولة اللازمة للوفاء بالوعود الانتخابية.
وشدد على أن الاقتصاد الروسي سيواصل صموده في وجه العقوبات الغربية، لكن في الوقت نفسه هناك “قنابل موقوتة” عدة مثل حرمان روسيا من التكنولوجيا الغربية والحصول عليها بأسعار مرتفعة عبر آلية الاستيراد الموازي وهو ما يؤثر سلبا على تنمية البلاد في المجال الاقتصادي والتكنولوجي على المديين المتوسط والبعيد، لكن على المدى القريب كل شيء على ما يرام، على حد وصفه، موضحاً أن الحرب في أوكرانيا أسهمت في تنشيط عجلة الاقتصاد الروسي عبر صرف أجور مرتفعة للمقاتلين وتشغيل المصانع العسكرية.