وتسارع معدل التضخم السنوي للشهر الثاني على التوالي إلى 3.5 في مارس 2024 من 3.2 بالمئة في فبراير، وهو أعلى من توقعات السوق البالغة 3.4 بالمئة.
وكانت الأسواق تترقب أول تخفيض للفائدة في يونيو المقبل بعد وصول معدل التضخم في يناير الماضي إلى 3.1 بالمئة وهو مستوى قريب من النسبة المستهدفة (2 بالمئة) وذلك نزولاً من أعلى مستوى سجله في أكثر من 40 عاماً عند 9.1 بالمئة في يونيو 2022، لكن القراءة الأخيرة للتضخم باتت تعزز المخاوف من اضطرار الفيدرالي لاتخاذ إجراءات إضافية لكبح جماح التضخم ومن ضمنها رفع الفائدة، وخصوصاً مع تزايد أصوات مسؤولي الفيدرالي الداعين للحذر من خفض الفائدة.
وقد أبقى الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في مارس الماضي للمرة الخامسة على التوالي، دون تغيير، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة.
أوقات صعبة
ونقلت شبكة “سي إن بي سي” الأميركية عن ألطاف قسام رئيس قسم استراتيجيات الاستثمار بمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا في “ستيت ستريت”: “إن الاقتصاد الأميركي قد يواجه أوقاتاً صعبة في عام 2025 إذا لم يتخذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي إجراءات بشأن أسعار الفائدة في وقت قريب”.
وأضاف قسام: “إن آليات السياسة النقدية التقليدية باتت معطلة ولم تعد تعمل على نحو فعّال، ما يعني أن أية تغييرات يجريها الفيدرالي بالنسبة لأسعار الفائدة ستستغرق وقتاً أطول كي تنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي”.
وأرجع رئيس قسم استراتيجيات الاستثمار هذا التحول المتوقع في الاقتصاد الأميركي إلى أن الالتزام الأكبر في ميزانية المستهلكين الأمريكيين هو الرهن العقاري، والذي تم التعاقد عليه في الغالب بأسعار فائدة ثابتة وطويلة الأمد خلال فترة الوباء التي اتسمت بانخفاض تكاليف الاقتراض.
كما أن غالبية الشركات الأميركية أعادت تمويل ديونها بأسعار فائدة أقل خلال نفس الفترة، وعلى هذا النحو فإن تأثير رفع تكاليف الاقتراض في الآونة الأخيرة لن يكون ملموساً حتى يحين موعد إعادة التمويل لاحقاً، بحسب قسام الذي أوضح أن المستهلكين والشركات لا يشعرون بوطأة ارتفاع الفائدة في الوقت الراهن.
بدوره، سحق رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، توقعات خفض الفائدة في الأجل القريب، عندما حذر من أن التضخم المرتفع باستمرار من المرجح أن يؤخر أي خفض في أسعار الفائدة الفيدرالية حتى وقت لاحق من هذا العام لأن “البيانات الأخيرة لم تمنحنا ثقة أكبر بشكل واضح” في أن زيادات الأسعار تحت السيطرة.
وأضاف بأول خلال حلقة نقاشية في مركز ويلسون، “إن أحدث تقارير التضخم “تشير بدلاً من ذلك إلى أنه من المرجح أن يستغرق الأمر وقتاً أطول من المتوقع لتحقيق تلك الثقة، في الوقت الحالي، نظرا لقوة سوق العمل والتقدم بالنسبة للتضخم حتى الآن، من المناسب السماح للسياسة التقييدية بمزيد من الوقت للعمل، والسماح للبيانات والتوقعات المتغيرة بإرشادنا، وإذا استمر التضخم المرتفع، فيمكننا الحفاظ على المستوى الحالي من القيود طالما لزم الأمر”.
من جهتها، أكدت رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في سان فرانسيسكو ماري دالي أنه “ليس هناك حاجة ملحة لخفض أسعار الفائدة مع استمرار الاقتصاد وسوق العمل في إظهار علامات القوة، ولا يزال التضخم أعلى من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة”.
وفي هذا السياق كان عضو مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي كريستوفر والر قد صرح أنه “لا يوجد داع للاندفاع لخفض أسعار الفائدة”، مشدداً على أن البيانات الاقتصادية الأخيرة تستدعي تأخير أو تقليل عدد التخفيضات التي سنشهدها هذا العام، بل ومن الحكمة بقاء الفيدرالي عند موقفه التقييدي الحالي ربما لفترة أطول مما كان يُعتقد سابقاً للمساعدة في إبقاء التضخم على مسار مستدام نحو 2 بالمئة.
هدفان أمام الفيدرالي
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الدكتور نضال الشعار كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا: “خلال الفترة الماضية كان أمام المجلس الاحتياطي الفيدرالي هدفان الأول خفض معدل التضخم والثاني تحقيق ما يسمى بالهبوط الناعم أو الركود الناعم بمعنى تجنب دخول الاقتصاد في حالة ركود شديدة وعدم تعرضه لأي نوع من أنواع الانهيار حتى لوكان بسيطاً”.
وقد نجح الفيدرالي بتحقيق جزء من هدفه الأول بخفض معدل التضخم من نحو 9 بالمئة إلى 3.5 بالمئة حيث ساعدته الظروف بأن معدل البطالة الذي يعد هدفاً أساسياً من أهداف البنوك المركزية وبشكل خاص المركزي الأميركي، حيث كانت الساحة مفتوحة أمامه للتركيز على التضخم، لكنه لم يحقق الهدف بشكل كامل، وفي الوقت ذاته حقق الفيدرالي هدفه الثاني وهو دخول الاقتصاد في الركود الناعم، بحسب الدكتور الشعار.
ويرى الشعار أنه “ضمن المتغيرات الحاصلة حالياً في العالم فيما يتعلق بالتوترات الجيوسياسية من الأزمة الأوكرانية إلى أزمة البحر الأحمر وتوترات تايوان وصولاً إلى ما يجري في الشرق الأوسط الحرب على غزة وضعف الاقتصاد الصيني إلى جانب ارتفاع أسعار البترول والذهب، فإن الاقتصاد دخل في دورة اقتصادية جديدة فيها تهديد واضح بأن الأمور قد تتجه مستقبلاً نحو السوء بما يتعلق بالعمالة والمبيعات والاستيراد والتصدير ومن ثم الدخول في دومة التضخم مرة أخرى في حال استمرار الأوضاع الجيوسياسية بالتفاقم”.
دورة اقتصادية جديدة
ورداً على سواء حول تأثير استمرار أسعار الفائدة بهذا المستوى قال كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا: “إذ استمرت أسعار الفائدة بالمستوى الذي هي عليه الآن فسيكون هناك تكلفة على المقترضين وسيؤثر ذلك على الطلب الكلي وسيؤدي ذلك إلى الدورة الاقتصادية الجديدة التي تحدثنا عنها ويمكن أن يتسبب ذلك في حدوث الركود، لكن البنوك المركزية لديها القدرة دائماَ على تحديد مقدار الجرعة التي يمكن أن تحيي فيها الاقتصاد وعلى على سبيل المثال في حال اضطر الأمر أن تنخفض أسعار الفائدة بمقدار 1 أو 1.5 بالمئة فالفيدرالي لديه مطلق الصلاحية في ذلك لكن الوضع الجيوسياسي والعالمي عموماً ينبئ بحالة سلبية”.
لكن معضلة البنك المركزي فيما يتعلق بسياسته النقدية والتحكم بأسعار الفائدة أنه يصرح باستمرار باعتماده على البيانات ثم يقرر الخطوة التالية، والبيانات قد تكون في بعض الأحيان غير كافية بوجود العوامل الطارئة على الاقتصادات كما يحصل حالياً وهي عوامل مهمة يجب أن يتم أخذها بعين الاعتبار لأن التركيز على البيانات فقط قد يضلل بوصلة البنوك المركزية ويحرف بوصلتها طبقاً لما قاله الدكتور الشعار.
وأكد أن “السياسة التشددية التي نراها حالياً بالنسبة للمركزي الأميركي ناتجة عن الاعتماد على البيانات فقط وبالتالي لا يوجد تناغم في تصريحات البنك المركزي بين البيانات والعوامل الجيوسياسية وهذا يخلق معضلة لتحديد المستقبل الاقتصادي”.
اتجاه إيجابي
من جهته، قال رائد الخضر رئيس قسم أبحاث الأسواق المالية في مجموعة إكويتي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “بدأت الولايات المتحدة عام 2024 على نغمة إيجابية، حيث اتجهت مؤشرات الاقتصاد في البلاد مثل الثقة في المستهلكين ونشاط الأعمال والتضخم باتجاه إيجابي. ومع ذلك، من المتوقع أن تؤثر عوامل مختلفة مثل ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة الديون لدى المستهلكين على النمو.
وعلى الرغم من عدم توقع الركود بعد الآن، إلا أنه لا يزال هناك توقعات أن يتباطئ النمو الإجمالي للبلاد إلى حوالي 1 بالمئة في الربعين الثاني والثالث من عام 2024. بعد ذلك، ستسمح تطبيع أسعار الفائدة والتضخم بالوصول إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى حوالي 2 بالمئة في عام 2025، بحسب الخضر.
ويشرح الخضر أن المستهلكين الأميركيين كانوا قادرين على الإنفاق بوتيرة قوية في عام 2023 على الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم، ومع ذلك ونظراً لعدم نمو الدخل القابل للتصرف وانخفاض الادخار، يرى أن هذا الاتجاه من غير المرجح أن يستمر، إذ تشير التوقعات إلى أن ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة عدد خطط الشراء الآجل قد تؤثر على إنفاق المستهلكين في الأشهر القليلة المقبلة. ونتيجة لذلك، قد يتباطأ نمو الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي تدريجياً في عام 2024.
وأضاف رئيس قسم أبحاث الأسواق المالية في مجموعة إكويتي: “بالنسبة لعام 2024، تشير التوقعات إلى تحقيق نمو بنسبة 2.1 بالمئة بالمئة، وركود صفري، وتضخم بنسبة 2 بالمئة، وبطالة بنسبة 4 بالمئة، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه التوقعات عرضة لمخاطر مختلفة بما في ذلك نتائج الانتخابات الرئاسية نهاية العام، وتأثير التوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الفائدة، وتشمل العوامل المختلفة التي يمكن أن تسبب ركوداً في أميركا عام 2024 الحرب التجارية وعدم اليقين السياسي والنمو البطيء لاقتصاد البلاد”.
مخاوف الركود
قد تؤدي العودة المحتملة لمخاوف الركود في الولايات المتحدة إلى فقدان المستثمرين الثقة في السوق حيث تساعد العملة العالمية القوية البنوك المركزية على مكافحة التضخم وسيوفر هذا أيضاً دفعة للعوائد الدولية للمستثمرين بالدولار الأميركي مع توقع أن ينهي بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة على المدى القريب، قد يبدأ المستثمرون في التساؤل عما إذا كان البنك المركزي لا يزال ملتزماً بالحفاظ على وتيرة ثابتة من الزيادات، وفقاً للخضر
ويتساءل المستثمرون أيضا كيف يمكن أن تبقى أسعار الفائدة طويلة الأجل مستقرة لفترة طويلة، إذ بعد ارتفاع عائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات في الفترة الماضية عاد ليستقر عند 4.64 بالمئة، ومن غير المعقول توقع ارتفاع أسعار الفائدة لأنه سيزيد الضغط على النمو بحسب تعبيره.
يشير الخضر إلى أنه في حالة تجنب الولايات المتحدة الركود في العام المقبل، من المتوقع أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض تحفيزه النقدي وتجنب التخفيضات المتسرعة في أسعار الفائدة. ونتيجة لذلك، سيستمر الفارق بين سندات الخزانة لأجل 10 سنوات والسندات لأجل 30 عاماً في الانخفاض بالإضافة إلى ذلك يجب على المستثمرين البدء في الاستعداد لأيام أفضل من منظور زيادة رأس المال والدخل.
ولكنه يرى أنه يجب على المستثمرين تخفيف توقعاتهم للعام التالي بسبب عوامل مختلفة، على سبيل المثال التقييمات المرتفعة والتقلبات المنخفضة وتباطؤ النمو الاقتصادي هي بعض العوامل التي يجب على المستثمرين مراعاتها ومع ذلك فإنه من المتوقع أن تؤدي الرياح المعاكسة للمستهلك والتضخم والنمو الاقتصادي إلى تقييد نمو الإيرادات.
وعلى صعيد آخر، يوضح محلل الأسواق أن الوضعية السياسية في الولايات المتحدة وخارجها تشكل مصدراً محتملاً للتقلبات التي قد تؤثر على النظرة المستقبلية لعامي 2024 و 2025، ولهذا السبب من المهم أن يعتمد المستثمرون استراتيجية توزيع أصول متنوعة تعكس عدم اليقين في العالم إذا انخفضت الأسعار في عام 2024، ويجب على المستثمرين البدء في التفضيل للسندات ذات المدى المتوسط ويجب أن يكونوا متأكدين أيضاً من أن هذه الأنواع من السندات ستوفر دفعة مستقرة لعائداتهم.
ونظراً للتقديرات المفرطة للأرباح وتباطؤ الاقتصاد من المتوقع أن تؤدي الأسهم ذات الرأس المال الكبير في الولايات المتحدة إلى أداء ضعيف، لذلك من المهم على المستثمرين النظر في تخصيص أموالهم للأصول ذات الجودة بدلاً من القطاعات، وفقاً للخضر.