ومع مرور أكثر من عقد من الزمن، على الانهيار الذي استلزم تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، بقروض بقيمة 67.5 مليار يورو وفرض حكومة البلاد برنامجا تقشفيا مثيراً للجدل، تعاني أيرلندا في 2024 من مشكلة يود معظم أقرانها في أماكن أخرى من العالم مواجهتها وهي: “فائض بقيمة 8.6 مليارات يورو (نحو 9.54 مليارات دولار) واقتصاد نما بمعدل أسرع بخمس مرات من المتوقع في العام الماضي”.
وبحسب تقرير أعدته “Financial Times” واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يقول جيرارد برادي، كبير خبراء الاقتصاد في Ibec، وهو أكبر لوبي ومجموعة لمملثي الأعمال في أيرلندا، إن مشكلة البلاد ليست في أنها لا تملك ما يكفي من المال، بل تملك الكثير منه، حيث تكافح الحكومة من أجل إيجاد السبل لتحويل هذه الأموال إلى أمور حقيقية يحتاجها الناس.
الفوائض المالية تتراكم
وفقاً للبيانات الرسمية تتجه أيرلندا نحو تحقيق فائض ضخم للعام الثالث على التوالي في عام 2024 بقيمة 8.6 مليارات يورو، بعد أن سجلت 8.3 مليارات يورو في العام 2023 و8.6 مليارات يورو في عام 2022، في وقت تظل فيه حكومة دبلن حذرة بشأن اتخاذ القرار بما يجب فعله بهذه الثروة، وتؤكد أن الأمر أصعب مما كان متوقعاً، حيث أنها تدخر بحكمة لمواجهة تحديات المعاشات التقاعدية والمناخ والبنية الأساسية في المستقبل.
واستخدمت أيرلندا بعض الأموال لسداد الديون، وخفضت نسبة الدين إلى الدخل القومي الإجمالي إلى أقل من 76 بالمئة.
وتقف وراء التدفقات النقدية إلى خزائن حكومة أيرلندا، العائدات المتزايدة للضريبة التي تستحصل عليها من الشركات العالمية التي تتخذ من البلاد مقراً لها، ومعظمها في مجال التكنولوجيا والأدوية، إذ تقول الحكومة إن عائدات “ضريبة الشركات” جلبت 23.8 مليار يورو في عام 2023 ومن المتوقع أن تجمع 24.5 مليار يورو هذا العام.
وترى حكومة أيرلندا أنه من غير المرجح أن تستمر إيرادات “ضريبة الشركات” في النمو بنفس الوتيرة الأخيرة، وهي تعتبر أن نصف عائدات هذه الضريبة قد تكون مفاجئة أو مؤقتة، ولذلك اختارت وضع أكثر من 100 مليار يورو من الفائض الذي تحققه بحلول عام 2035، في صندوقين للثروة السيادية ما يساعدها في معالجة التحديات المستقبلية المتعلقة بالمعاشات التقاعدية والمناخ والبنية التحتية.
ونما الناتج المحلي الإجمالي لأيرلندا بمعدل أسرع بخمس مرات من المتوقع في العام الماضي، مرتفعاً بنسبة 2.6 بالمئة مقارنة بتقديرات رسمية كانت تشير إلى نموه بنسبة 0.5 في المئة، ولكن ورغم ذلك فإن الحكومة خفّضت توقعاتها لفائض الميزانية المتوقع تحقيقه بين 2023 و2027 من 65 مليار يورو إلى 38 مليار يورو.
مخاطر فشل إدارة ثروة أيرلندا
وبحسب “Financial Times” فإن بعض خبراء الاقتصاد يعتقدون أن فشل أيرلندا في إدارة ثروتها الهائلة يفوت فرصة عليها لإصلاح مشاكل البنية الأساسية التي تهدد بخنق الطفرة التي تعيشها، حيث يقول الخبير الاقتصادي ديفيد ماكويليامز، إن البلاد بحاجة ماسة للاستثمار العام، وأمامها فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة لتمويل هذا الاستثمار من جيبها، مشيراً إلى وجود العديد من المجالات التي يمكن إنفاق المال عليها في أيرلندا من معالجة أزمة الإسكان، إلى تخفيف تحديات شبكة الكهرباء وإمدادات المياه والخدمات الصحية والنقل العام.
ورغم أن وتيرة بناء المساكن تسارعت أخيراً في أيرلندا، إلا أنها لا تزال أقل كثيراً من الاحتياجات المتوقعة، فقد تأخر إنشاء مستشفى وطني جديد للأطفال، والذي من المقرر أن تبلغ تكلفته 2.24 مليار يورو، كثيراً عن الموعد المحدد، وهو تجاوز الميزانية الأولية المخصصة لها، ومن غير المرجح أن يفتتح قبل العام المقبل على أقرب تقدير. ويرى خبراء آخرون، أن أيرلندا يمكن أن تعزز رفاهية مواطنيها البالغ عددهم 5.3 مليون نسمة واقتصاد البلاد من خلال تحسين نظام التخطيط الذي يمكن أن يؤخر تطوير البنية التحتية لسنوات.
ويقول رئيس قسم الأوراق العالمية في Cedra Markets جو يرق، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أيرلندا واجهت أزمة مالية كبيرة في عام 2008، بسبب انعكاس أزمة الرهن العقاري في أميركا بشكل سلبي عليها، ليتدخل بعدها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والصندوق السيادي الأيرلندي عبر ضخ نحو 67 مليار يورو في الاقتصاد في نهاية 2010، حيث تم تخصيص قسماً من هذه الحزمة لإعادة هيكلة البنوك ودمجها وتصفية بعضها، مشيراً إلى أنه وبظرف 3 سنوات أي في الفترة ما بين 2013 و2014، تمكنت أيرلندا من الوفاء بجميع التزاماتها تجاه الجهات الدائنة.
ويشرح يرق أن اقتصاد أيرلندا سجل نسبة نمو كبيرة خلال السنوات العشر الأخيرة، وصلت لمستويات 9 و10 في المئة في بعض الأحيان، وهذا النمو ساهم بحدوثه عدة عوامل، فالبلاد أصبحت منطقة جاذبة للشركات العالمية، وخاصة الأميركية بسبب الضريبة المنخفضة التي تفرضها، إضافة إلى قدرتها على الانفتاح على السوق الأوروبية، كونها عضو في الاتحاد الأوروربي منذ 1973، فضلاً عن اليد العاملة الرخيصة التي تمتلكها، لافتاً إلى أن البطالة في البلاد انخفضت من 14 بالمئة في زمن الأزمة إلى 4 بالمئة بعدها، في حين أعطى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دفعاً إضافياً لدور أيرلندا.
مشكلة أيرلندا حالياً
أضاف يرق إن المشكلة التي تواجهها أيرلندا حالياً، تتمثل في خوف الحكومة من إعادة استثمار الفائض المالي الذي حققته في السنوات الثلاث الأخيرة، فالبلاد تحولت إلى مركز اقتصادي يستقطب طلباً كبيراً، وبالتالي فهي بحاجة إلى إعادة استثمار فوائض الأموال، كون أي اقتصاد لا يستطيع تحقيق النمو والتقدم دون بنى تحتية متطورة، فإهمال هذه الخطوة يؤدي إلى ضعف في جودة الخدمات في البلاد.
ويرى يرق أن الحكومة في أيرلندا يجب أن تتحلى بالجرأة، وأن تستثمر الأموال الفائضة في تطوير القطاع العام وتحديث البنى التحتية من طرقات ومدارس وكهرباء ومياه، مشدداً على ضرورة عدم تكرار الأخطاء السابقة، والقيام باستثمارات كبيرة في قطاع العقارات، الذي يحتاج أيضاً لخطة مدروسة تمكنه من مواجهة النقص في أعداد الشقق السكنية في البلاد.
من جهته يقول الخبير في الإدارة الضريبية محمد سعد، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه من النادر جداً في العصر الحالي أن تعاني دولة ما من مشكلة تتمثل بامتلاكها للكثير من المال، دون القدرة على إنفاق هذه الأموال في المكان المناسب، فاكتفاء الحكومة الأيرلندية بادخار قسم كبير من الأموال التي تحققها، في صناديق مخصصة لمواجهة تحديات المعاشات التقاعدية والمناخ والبنية الأساسية في المستقبل، دون تطوير البنية التحتية، هو خطأ استراتيجي سيؤدي إلى تراجع الدور الذي تتمتع به الدولة حالياً في عالم الأعمال.
وبحسب سعد فإن الموقع الجغرافي المميز لأيرلندا في قلب أوروبا الغربية، ساهم في تعزيز دورها كمركز رئيسي للشركات العالمية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والتمويل والخدمات، حيث لم تألُ الحكومات في البلاد جهداً، في تحسين بيئة الأعمال من خلال تبني سياسات داعمة وتقديم حوافز للمستثمرين، ولكن التردد في القيام باستثمارات جديدة كبيرة، قد يؤدي إلى تقليص تنافسية أيرلندا وتهديد قدرتها على جذب الشركات العالمية، مما قد ينعكس سلبا على بيئة الأعمال المواتية في البلاد.
ويشرح سعد أن الشركات العالمية تبحث بالفعل عن الأماكن التي تكون فيها الضريبة منخفضة، ولكنها بحاجة أيضاً إلى بنية تحتية تواكب التغييرات السريعة والتحديات المتزايدة، ولذلك يصبح من الضروري أن تضع الدول خططاً لتطوير بنيتها التحتية، لتلبية احتياجات الحاضر وضمان الاستدامة للمستقبل، فبنية تحتية قوية تشمل الطرق والموانئ وشبكات الطاقة والمياه والاتصالات، تسهم في تسريع حركة التجارة وتسهل النقل وتقلل التكاليف الاقتصادية، وهذا بدوره سيعزز من قدرة أيرلندا على جذب الاستثمارات ويحفز نموها الاقتصادي ويخلق فرص العمل لمواطنيها.