لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط مصدراً رئيسياً للعديد من السلع الأساسية، بدءاً من النفط والغاز وحتى المواد الغذائية. أي اضطراب في هذه المنطقة يؤدي إلى تقلبات حادة في أسعار هذه السلع، مما يزيد من تكاليف الإنتاج ويؤثر على أسعار المستهلكين في جميع أنحاء العالم، لكن، كيف يؤثر الصراع في الشرق الأوسط على التجارة العالمية بشكل عام وما هي السلع الأكثر تأثراً؟
يتزايد القلق بشأن عودة التضخم نتيجة الغارات الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان على مدى أسبوعين وحربها المستمرة مع حركة حماس، فبينما حققت البنوك المركزية بعض النجاح في كبح جماح التضخم، فإن هذه التطورات الجيوسياسية قد تقوض هذه الجهود، بحسب خبراء.
ارتفاع تكاليف الشحن
في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال الدكتور نضال الشعار الخبير الاقتصادي وكبير الاقتصاديين في شركة “ACY” : “إن ما يحصل حالياً من تصعيد واضطرابات في منطقة الشرق الأوسط يذكرنا بما حدث أثناء جائحة كورونا حيث تعطلت أغلب الطرق الملاحية والبرية وتعطلت بذلك سلاسل التوريد بسبب نقص اليد العاملة وارتفاع تكاليف الشحن وحتى عدم توفر الشحن، وهو ما يحدث مرة أخرى، ولكن على مستوى أقل شدة، حيث شاهدنا الأسبوع الماضي ارتفاعات في أسعار البترول بواقع 8 بالمئة خلال أيام قليلة وفي الوقت ذاته ارتفعت أسعار المواد الأساسية”.
وأشار إلى أنه منذ بداية الحرب في أكتوبر الماضي وحتى الآن ارتفعت تكاليف الشحن أكثر من خمس مرات مما يؤثر في المحصلة على سعر المنتج النهائي، لافتاً إلى أن المنتج قد يتحمل هذه التكاليف لفترة بسيطة، ولكن في النهاية فإن هذه التكاليف سوف تصل إلى جيب المستهلك وسوف تؤثر في رفع معدلات التضخم.
ويتزامن هذا الوضع مع حالات عناد التضخم التي شاهدناها خلال عامي 2023 و2024 في الوقت الذي تحاول فيه البنوك المركزية أن تكبح جماح التضخم، ليأتي هذا التصعيد ويسهم في تثبيت معدلات التضخم وفي حال استمر التوترات في المنطقة واستمرار ارتفاع أسعار المواد الأساسية بما فيها البترول والمواد الغذائية فإن ذلك سيظهر بالتأكيد في معدلات التضخم النهائية مما سيدفع البنوك المركزية لاتخاذ إجراءات مختلفة قد يؤثر على معدلات البطالة والتوظيف ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في أغلب دول العالم، بحسب تعبيره.
الآثار المباشرة وغير المباشرة
وأضاف الخبير الاقتصادي الدكتور الشعار: “من الطبيعي أن نفرق بين الآثار المباشرة وغير المباشرة لهذا التصعيد، فدول المنطقة القريبة من الصراع سوف تتأثر بشكل كبير من هذا التصعيد وبدأنا نشاهد ذلك في الاقتصاد الإسرائيلي حيث خسر جزءاً كبيراً من معدل نموه وانخفضت التوقعات فيما يخص السنوات المقبلة، وذات الشيء بالنسبة للعراق وسورية وإيران والأردن كما أن ذلك يمكن أن يمتد إلى دول مثل مصر وبعض الدول الأفريقية”.
إن أي انقطاع أو اضطراب أو عطل في سلاسل التوريد ليس له تأثير مباشر على العملية الإنتاجية فحسب، بل له تأثير مستقبلي مهم جداً، بحسب الشعار الذي أشار إلى أن المواد الأساسية تسهم في عملية التصنيع والابتكار والإبداع عبر تزويد الأسواق بمواد جديدة، وكل هذا سوف يباطئ بسبب الاضطراب الذي نشهده حالياً في سلاسل التوريد.
صدمة اقتصادية
ويرى كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” أن ما يحصل من اضطرابات جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط يمثل من الناحية الاقتصادية صدمة قد تكون مستمرة وتؤثر بشكل طويل الأجل على جميع دول المنطقة من ناحية تراجع النمو الاقتصادي والتراجع في وصول المنتجات الجديدة إلى الأسواق وهذا بدوره سوف يؤثر على مستوى معيشة المواطنين في هذه الدول.
أما الدول البعيدة مثل الصين فستتأثر بالتأكيد من ناحية قدرتها على التصدير ضمن تعقيدات سلاسل التوريد الحالية وتحديداً ما يخص دول الشرق الأوسط وآسيا إذ أن الصين تعد من المصدرين الأوائل لهذه الدول، كما أن دول أوروبا ستتأثر لأنها تعتمد على الطاقة وبعض المواد الأساسية من الخارج، بينما قد تكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة البعيدة عن هذه الاضطرابات بسبب البعد الجغرافي والكفاية من حيث الموارد الاقتصادية، طبقاً لما قاله الدكتور الشعار.
تأثر حركة التجارة
بدوره، قال الخبير الاقتصادي علي حمودي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “لقد رأينا بالفعل أن شركات الشحن العالمية واجهت عدداً متزايداً من المخاطر والصعوبات في نقل البضائع على مدار العام الماضي وهذا العام، وفي مقدمتها الاضطرابات في الشرق الأوسط وتأثيرها على حركة التجارة عبر البحر الأحمر. فقد انخفضت حركة المرور بنسبة الثلثين عبر طريق الشحن الرئيسي منذ بدأت الهجمات على السفن من قبل الحوثيين العام الماضي. وكان الطريق يمثل 12 بالمئة من إجمالي التجارة العالمية قبل بدء الهجمات”.
والشيء المقلق هو أن العديد من الشركات، بما في ذلك شركات الشحن الكبرى مثل ميرسك، تخلت عن طريق البحر الأحمر تقريباً واختارت بدلاً من ذلك السفر حول رأس الرجاء الصالح، والذي يمكن أن يضيف 10 أيام إلى الرحلات، وتكاليف متزايدة كبيرة، بحسب تعبيره.
وذكر أن اشتعال التوترات الجديدة في الشرق الأوسط أثار في الأيام الأخيرة مخاوف من أن المزيد من السفن قد تتجنب هذا الطريق، ومع ذلك يرى حمودي أن “هذا التصعيد الأخير سيكون له تأثير أصغر، حيث تتجنب معظم سفن الحاويات وخاصة سفن الشحن العملاقة طريق البحر الأحمر بالفعل، لكن الأمر المقلق الآن هو أن المزيد من التدهور في الوضع الجيوسياسي يعني أن العودة واسعة النطاق لسفن الحاويات إلى منطقة البحر الأحمر تبدو احتمالاً بعيداً الآن”.
وأضاف الخبير الاقتصادي حمودي: “بشكل منفصل، شهدنا أيضاً انخفاضاً في حركة المرور عبر قناة بنما بعد أن أجبر الجفاف مشغلها على خفض الحد الأقصى لعدد السفن التي يمكنها المرور عبرها في وقت سابق من هذا العام، من 36 سفينة في اليوم إلى 20”.
إذن ما هو التأثير حتى الآن؟
يجيب حمودي على هذا التساؤل بقوله: “كان التأثير الأكبر للاضطرابات على تكلفة نقل البضائع بالنسبة للشركات، تواجه شركات الشحن التي تختار طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من قناة السويس زيادة بنسبة 40 بالمئة في تكاليف الوقود، في حين ارتفعت أسعار الحاويات أيضاً، لذا فإن سعر حاويات الشحن مقاس 40 قدماً التي تتحرك بين شرق آسيا وشمال أوروبا بلغ الآن 8587 دولاراً للحاوية عندما بلغ السوق ذروته في يوليو الماضي، أي أعلى بنسبة 468 بالمئة مما كان عليه في ديسمبر 2023، قبل تصعيد هجمات الحوثيين”.
التضخم على المحك
ورداً على سؤال حول إمكانية بدء التضخم في الارتفاع مرة أخرى قال: “في المملكة المتحدة على سبيل المثال انخفض التضخم مرة أخرى إلى ما يقرب من هدف بنك إنجلترا البالغ 2 بالمئة لكنه ترك الأسعار أعلى بنسبة تزيد عن 20 بالمئة مما كانت عليه قبل الوباء، مما تسبب في صدمة مالية للأسر، كما دفع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أسعار السلع المستوردة من الاتحاد الأوروبي إلى الارتفاع، في حين تهدد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بالتوسع إلى معركة أوسع نطاقاً بشأن التعريفات الجمركية”.
وتعد المملكة المتحدة واحدة من أكثر الدول التجارية انفتاحاً في العالم، ويشعر المستوردون والمصدرون بعمق بالندوب الناجمة عن الوباء والحرب الروسية الأوكرانية والصراع في المنطقة. إذا اختاروا تمرير هذه التكاليف إلى المستهلكين، فقد يواجه البريطانيون ضغطًا على ميزانياتهم مرة أخرى. وينطبق الشيء نفسه على البلدان الأخرى، وخاصة تلك التي تستورد الطاقة والسلع الأساسية وغيرها من المنتجات، وفقاً لحمودي.
ومع ذلك يشير الخبير الاقتصادي حمودي إلى أن أسعار النفط لا تزال أقل من 90 دولاراً، حيث لدينا اقتصاد صيني ضعيف واقتصاد أوروبي ضعيف – وهذا يدفع الطلب على النفط إلى الانخفاض في الوقت الحالي، وأعتقد أن ارتفاع أسعار النفط والطاقة من شأنه أن يخلف تأثيراً ملموساً وسريعاً على التضخم مقارنة بتكاليف الشحن، ولكن في الوقت الحالي، من منظور إمدادات النفط، لا يوجد ما يدعو للقلق. إلا إذا اشتدت حدة الصراع وانتشر على نطاق أوسع بحيث تبدأ أسعار النفط في الارتفاع كثيراً”.