هجوم ترامب على القارة الأوروبية وقادتها جاء حاداً وغير مسبوق، حيث وصف دول الاتحاد الأوروبي بالضعيفة والبيروقراطية، محذراً من خطر اندثار الحضارة الأوروبية بسبب تدفقات المهاجرين، ومعتبراً أن القارة أصبحت عبئاً يسهل الضغط عليه واستغلالها اقتصادياً وسياسياً.
وتزامن هذا التصعيد مع جهود اقتصادية ملموسة، إذ أجبرت الإدارة الأميركية الاتحاد الأوروبي على شراء منتجات طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار، واستثمارات بقيمة 600 مليار دولار، وفرضت رسوماً جمركية تصل إلى 15 بالمئة على مجموعة واسعة من السلع الأوروبية.
وبحسب مدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، جيرمي شابيرو، فإن عداء ترامب لأوروبا يعكس رؤية الولايات المتحدة لأوروبا كشريك ضعيف غير ندي، لا يتمتع بالاستقلالية الكافية اقتصادياً أو أمنياً.
على صعيد التحالف عبر الأطلسي، وصف المستشار الألماني فريدريش ميرتس الوضع الحالي بأنه نهاية لعقود من السلام الأميركي في أوروبا.
وحذر ميرتس من تراجع الدور الأميركي كضامن للأمن الأوروبي، داعياً إلى توحيد الجهود الأوروبية لتعزيز التنافسية الاقتصادية والقدرات الدفاعية الذاتية، في مواجهة استراتيجية الولايات المتحدة التي تركز على مصالحها الخاصة بعيداً عن مصالح القارة.
تحالف على شفير الانهيار
أكد رئيس وحدة الشؤون الدبلوماسية والاقتصادية بالمنظمة الأوروبية، ناصر زهير، في حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، أن هذه اللهجة تمثل وصفاً دقيقاً للحالة الراهنة للتحالف الأميركي الأوروبي، الذي بدأ ينهار ليس فقط خلال فترة ترامب، بل امتد تأثيره إلى فترة إدارة بايدن، الذي، بحسب زهير، قوض الأمن الأوروبي وأجبر دول القارة على الانخراط الكامل في حرب أوكرانيا، مع تهميش دورها في التحالفات الدولية والمحاور الاستراتيجية، بما في ذلك المحيطين الهندي والهادئ.
وأشار زهير إلى أن تصريحات ترامب، التي تهدف في جزء منها لدفع الأوروبيين للاعتماد على أنفسهم وتخفيف أعبائهم عن الولايات المتحدة، تعكس رؤية المؤسسات الأميركية أيضاً، وهو ما فهمه المستشار الألماني فريدريش ميرتس الذي صرح بأن التحالف الأميركي الأوروبي يبدو وكأنه انتهى.
الشارع والأحزاب الأوروبية: تقبل أم رفض؟
قال زهير إن الشارع الأوروبي قد اعتاد على أسلوب ترامب، لاسيما بعد استهدافه المستمر لقادة مثل أنجيلا ميركل خلال ولايته الأولى.
إلا أن التركيز الأكبر ينصب على الأحزاب الأوروبية، وخصوصاً الأحزاب الصاعدة من أقصى اليمين، التي بدأت تتبنى فكرة تعزيز القومية الأوروبية ومصالح الدول على مستوى الاتحاد ككل.
ويرى الخبير أن هذه الديناميكية تؤكد صحة الطرح الذي يقدمه ترامب حول استقلالية أوروبا، إذ يرى الأوروبيون الآن أن الضربات الأميركية ليست أخطاءً عابرة، بل جزء من استراتيجية موحدة تدفع القارة إلى الاستيقاظ والاعتماد على قدراتها الذاتية.
روسيا والناتو: التحدي المستمر
فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، أشار زهير إلى أن الأزمة الحالية ليست مجرد مسألة أوروبية داخلية، بل مرتبطة بتوسع الناتو على حدود روسيا.
ومع ذلك، أظهر التاريخ الأوروبي، بقيادة المستشارين الألمان السابقين ميركل وشرويدر، قدرة على إدارة العلاقة مع روسيا بنهج قائم على المصالح المشتركة، خصوصاً في قطاع الطاقة، حيث شكل الغاز الروسي شريان حياة للاقتصاد الألماني والأوروبي.
ولكن التحدي الآن يكمن في الموازنة بين مصالح أوروبا ومطالب الولايات المتحدة، حيث يرى زهير أن الأوروبيين لم يعودوا مجرد تابعين للقرارات الأميركية، بل بدأوا في تعزيز استقلاليتهم الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك رفض التحالف الكامل مع الولايات المتحدة ضد الصين، مع الحفاظ على مصالحهم الخاصة.
اليمين الأوروبي وصعود الأحزاب الجديدة
أوضح زهير أن نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة أظهرت صعوداً ملحوظاً لأحزاب اليمين المتطرف، وهو ما يعكس فقدان الثقة بالأحزاب التقليدية التي انخرطت في حرب أوكرانيا ودعم السياسات الأميركية.
وفي هذا السياق، بدأ الأوروبيون يفهمون ضرورة اختيار قادة جدد يؤمنون باستقلالية أوروبا واستراتيجية سياسية اقتصادية مستقلة.
وأشار زهير إلى أن القادة الأوروبيين الحاليين، بما في ذلك ميلوني وميرتس، يعززون هذا التوجه، مع التركيز على بناء قوة أوروبية موحدة قادرة على الصمود في مواجهة التحديات الخارجية، سواء كانت أمريكية أو صينية أو روسية.
الرسوم الأميركية: ورقة ضغط أم تحفيز؟
حول الرسوم الجمركية الأميركية على الأوروبيين، رأى زهير أن تأثيرها محدود، كون الأوروبيين لديهم خيارات بديلة، وبدأت أوروبا بالفعل في تجاوز هذه المسألة، مع تأكيد أن ترامب لم يسعَ إلى الضغط المفرط على القارة، إذ يحرص على عدم دفع الأوروبيين نحو الصين كشريك اقتصادي أساسي، مع توجيه البوصلة نحو مصالح روسية جزئية في الطاقة.
كما أشار إلى أن ترامب اشترط لخفض الرسوم من 30 بالمئة إلى 10 بالمئة أن يشتري الأوروبيون نفطاً وطاقة بقيمة 600 مليار دولار، وهو ما يعكس العلاقة التبادلية بين الضغط والتحفيز في السياسات الاقتصادية الأميركية.
الاستقلالية الأوروبية: رؤية استراتيجية بعيدة المدى
وأكد زهير أن أوروبا قادرة على تعزيز استقلاليتها الدفاعية والسياسية والاقتصادية، مستدلاً على المقومات الكبيرة لدول مثل فرنسا، ألمانيا، وإيطاليا، مع الاعتراف بأن هذه القدرات لم تكن موحدة سابقاً.
وأوضح أن الاتحاد الأوروبي بدأ فعلياً في ترجمة التصريحات إلى واقع عملي، من خلال إنشاء صندوق لتعزيز الصناعات الدفاعية واستراتيجية لبناء قوة أوروبية مستقلة عن الناتو، مع الحفاظ على المشاركة الفعالة في الحلف الغربي لضمان الأمن الأوروبي.
وأشار زهير إلى أن هذا التوجه يتطلب فترة زمنية تمتد من خمس إلى عشر سنوات، لتكوين وحدة القرار الأوروبي، مع التركيز على عدم الاصطدام بالمصالح الواقعية، بما في ذلك التحديات النووية، التي تحتاج إلى مظلة فرنسية أو أوروبية مستقلة بعيداً عن الاعتماد على الناتو.
أوروبا بين التحديات والفرص
خلص زهير إلى أن أوروبا، رغم الاعتماد التاريخي على الولايات المتحدة والناتو، بدأت خطوات عملية نحو الاستقلالية، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الدفاعي، مع قدرة الدول الكبرى على الصمود أمام أزمات الطاقة والتحديات الاقتصادية.
وأوضح أن التحولات الحالية ليست مجرد تصريحات سياسية، بل تعكس استراتيجية أوروبية بعيدة المدى نحو إعادة رسم أولوياتها الداخلية والخارجية، بما يضمن وجود قطب أوروبي قادر على الاستمرار كفاعل مؤثر في النظام الدولي، دون الانحياز الكامل لأي طرف خارجي.
